اكتشاف دلائل تشير لاحتمالية وجود بيئة داعمة للحياة على أحد أقمار “زحل”

لطالما كان البشر يتأملون الكون بحثاً في نجومه البعيدة عن حياة أخرى ترافق سكان كوكب الأرض عزلتهم، ولكن يبدو أن صدى هذه الأمنيات لم يأتي من بعيد، بل من داخل مجموعتنا الشمسية نفسها، ففي كل سنة يتضح للعلماء أكثر أن القمر الجليدي “إنسيلادوس” المتواجد في حلقات كوكب زحل، أنه “قابل لاحتمالية وجود شكل من أشكال حياة”، فقد اكتشفوا عناصر كيميائية جديدة في هذا القمر تشير إلى إمكانية أنه قابل أن يكون قمراً ينبض بالحياة، وخصوصاً في منطقة توجد بها مسطح مائي سائل، وإليكم التفاصيل.
قبل الشروع في قراءة المقال، ومنعاً للالتباس، يشير الباحثون في نتائجهم إلى أن هناك على سطح “إنسيلادوس” بيئة داعمة لوجود حياة، ولكن لم يتم التأكيد في أي سطر من الورقة العلمية أو المقابلات الصحفية مع العلماء أنه تم (اكتشاف حياة بالفعل)، رغم وجود بعض الأثار أو الدلائل لهذا الافتراض، إلا أنها ليست كافية لتأكيد هذه المزاعم، ورغم أن بعض الكلام المنقول عن العلماء قد يوحي بشيء، إلا أن الإيحاء ليس تأكيداً، والأمر يحتاج لدراسة علمية موضوعية وحيادية قبل رمي هذه الفرضية أو الأخذ بها، حيث أن ما تم تأكيده حتى الآن فقط هو (قابلية هذا الكوكب على احتضان كائن حي)، ولذا وجب التنويه.
لمحة عن قمر انسلادوس وآخر الاكتشافات عليه
يظهر “إنسيلادوس” ككرة بيضاوية بقطر يبلغ 250 كيلومتراً، ويتميز بسطح يبدو كأنه مليء بالخطوط أو الأخاديد، أما بالنظر إليه فهو قمر صغير غير مرئي بوضوح بالعين المجردة، ووفقاً لتقرير نشرته شبكة “CNN”، فأن معظم المعلومات التي نملكها حول هذا القمر تعود إلى رحلة مسبار كاسيني في الفترة بين عامي 2004 و2017، خلال هذه البعثة اكتشف المسبار وجود محيط مائي واسع من المياه المالحة تحت طبقة سميكة من الجليد، كما اكتشف وجود فوارات تحتوي على بخار الماء تتدفق من شقوق موجودة في سطحه الجليدي، إذاً هو يحتوي بحراً أو محيطاً سائلاً يغلي تحت القشرة الجليدية.

وقد أظهرت التحليلات الأولية وجود مجموعة من الجزيئات العضوية، ولكن واجه العلماء في ذلك الحين صعوبة في تحديد نوعية هذه الجزيئات بدقة، وفي محاولة جديدة، قام العلماء بإعادة فحص هذه البيانات باستخدام النمذجة الإحصائية، وأكدوا على الاكتشافات السابقة وكشفوا عن قائمة طويلة من الجزيئات العضوية، مما “قد” يشير إلى إمكانية وجود حياة هناك، في حين لا يمكن للعلماء حالياً تأكيد وجود حياة حقيقية حقاً، ولكن الأدلة قد تشير إلى ذلك، وما تشير إليه الأدلة حقاً، أنه داعماً لوجود الحياة على أقل تقدير.
يجدر بالذكر أن المركبات العضوية لا توجد على سطح كوكبنا بشكل طبيعي دون تدخل كائن حي، إلا أن العالم “فريدريش فولر” استطاع تخليق حمض الاكساليك من السيانوجين، كما استطاع “فولر” بعد ذلك بأربع سنوات (في 1828) من صنع اليوريا من بعض الأملاح غير العضوية، حيث كان اليوريا معروف بأنه موجود فقط في بول الكائنات الحية، واستطاع بعدها تخليق وإنتاج مواد عضوية معقدة أخرى بواسطة مواد غير عضوية ودون تدخل من أي كائن حي، وما نستخلصه من ذلك أن المركبات العضوية هي من تخصص الأحياء، وفعلاً هي غير موجودة بشكل طبيعي، ولكن يمكن أن تنتج بدون تدخل الأحياء في ظروف وشروط معينة (كمثل تلك التي تم تطبيقها في مخبر فولر)، ولا نعلم حقاً إن كانت هذه الشروط تتحقق على سطح انسيلادوس أم لا، وهو الأمر الذي يدفعنا للتأني قبل الذهاب إلى تبني فرضية أن المركبات العضوية التي وجدت على ذلك القمر يستدل بها على وجود كائنات حية هناك.
:format(jpeg):blur(1):quality(80)/http://www.bzi.ro/wp-content/uploads/3/149/Friedrich_W%C3%B6hler.jpg)
علماء: يملك هذا القمر مكونات أساسية تدخل في تكوين المركبات العضوية المعقدة
إن ما يجعل قمر إنسيلادوس يملك بيئة مناسبة للحياة، هو مداره حول كوكب زحل الذي يسبب تمدداً وانضغاطاً، مما ينتج عنه إطلاق طاقة حرارية قد تتسرب من خلال فتحات قاع البحر، وهي البيئة التي تشابه المحيطات العميقة على الأرض، فربما تكون درجة الحرارة في أعماق محيط هذا القمر أعلى من سطحه بكثير، حيث يعتقد العلماء أن هذه الفتحات للطاقة الحرارية الأرضية تتيح تسرّب الغازات الساخنة المحترقة من باطن القمر مما يزيد من درجة الحرارة في الوسط.
خلال مرور مسبار “كاسيني” فوق أخاديد هذا القمر، رصد المسبار وجود الملح والعناصر العضوية والميثان وثاني أكسيد الكربون، وحتى الأسيتيلين والبروبيلين والإيثان، واستمر تحليل البيانات التي سجّلها المسبار لفترة طويلة بعد نهاية المهمة، وتم الإعلان مؤخراً عن اكتشاف الفوسفور، الذي يعد أيضاً عنصراً أساسياً آخر للحياة، وكان العنصر الأهم الذي اكتشفه فريق من جامعة هارفارد هذه المرة هو سيانيد الهيدروجين.

حيث قال جونا بيتر (العالم الأمريكي في مجال الفيزياء الحيوية والمحرر الرئيسي للدراسة التي يتناولها مقالنا) أن سيانيد الهيدروجين يشكل عنصراً أساسياً في عملية تكوين جزيئات ذات تعقيد أكبر، مثل الأحماض الأمينية أو السكريات التي تنتجها الأحياء، والتي تعد أساسية لاحتمال ظهور الحياة”.

لم يقم “جونا بيتر” بنشر دراسته هذه دون تدقيق معمق في نتائجه، ورغم ذلك، قام المحكمون في مجلة “نايتشر” في أخذ وقت طويل لتدقيقها وفحص أدق تفاصيلها، فهي بالطبع ليست ورقة علمية عادية، بل قد تكون إحدى أهم الاوراق العلمية في زمننا، والتي قد تحمل في سطورها جواباً عن السؤال الذي كان يشغل البشر منذ الآف السنين عن احتمالية وجود كائنات خارج كوكبنا، أو حتى احتمالية وجود مكان آخر في الكون قابل لاحتواء شكل من أشكال الحياة التي نعرفها.
هل يعني ذلك أنه من الممكن للبشر أن يعيشوا على هذا القمر خارج كوكب الأرض؟
أكدت “أثينا كوستينيس”، الفلكية وعالمة الكواكب في مرصد “باريس-مودون بي إس إل”، أهمية البيانات الجديدة هذه، وتأخذ منحاً متفائلاً في تفسير النتائج، مركزة على أهمية اكتشاف الجزيئات العضوية وما قد يعنيه ذلك (كما ذكرنا)، ولكن تشير “كوستينيس” إلى احتمال أن يكون القمر “قابلاً للحياة” هو غير مرتبط بالوجود البشري على سطحه بالطبع، نظراً لأن درجة حرارة سطحه تتراوح في المتوسط حوالي 200 درجة مئوية تحت الصفر، وهي بيئة غير مناسبة للحياة البشرية، ولكنها قد تكون مناسبة لعيش كائنات أخرى.
والعنصر الجديد الذي اكتشفه فريق هارفارد يعزز الاهتمام بهذا القمر الصغير، فقالت “كوستينيس” أنه بالعثور على السيانيد وباقي العناصر فيمكن القول أن هذا القمر يملك جميع الظروف التي تجعله قابلاً للحياة (المياه السائلة، ومصادر الطاقة، والعناصر الغذائية، وهي العناصر الأساسية للكيمياء العضوية، بالإضافة إلى تمتعه ببيئة مستقرة) وهو ما يشبه أيضاً حالة قمر “تيتان”، وهو قمر آخر يتبع زحل، بالإضافة إلى أقمار المشتري، “يوروبا” و”غانيميد”.
هل هناك مشاريع مستقبلية لدراسة قمر إنسيلادوس بشكل أوسع؟
لم يتم الشروع في التخطيط العلني لأي مهمة مستقبلية لاستكشاف هذا القمر بشكل أوسع حتى الآن، ربما لأن النتائج ما تزال حديثة، ومع ذلك، يشدد العلماء على أهمية إجراء المزيد من الاستكشافات للتحقق من إمكانية وجود الحياة عليه، حيث تشير النتائج إلى وجود بيئة غنية كيميائياً قد تكون داعمة لنشوء الحياة، وهو ما يبرز أهمية استكمال البحث والتحقيق في هذا الإدعاء.

على أية حال، مازال العلماء يركزون على دراسة أقمار أخرى يشك بأنها داعمة أيضاً لوجود حياة على سطحها، أو (في باطنها) بتعبير أدق، حيث تنصب مهمة مسبار “جوس” الذي أطلقته الوكالة الفضائية الأوروبية في أبريل الماضي على قمر “غانيميد” التابع لكوكب المشتري، وفي العام المقبل ستتجه “ناسا” لاستكشاف قمر “يوروبا” عبر مسبار “كليبر”.